انشاء حساب



تسجيل الدخول



كتب بواسطة: سعيد عبدالغنى
14 أغسطس 2015
11771

 

إسلام كرار

 

(1)

تروي لي جدتي حكايات عن مدرستها الي كانت تتوسط نخيل قريتنا التي تقع شمال أسوان فتنساب وتتدفق  مع مجرى النيل ولكنها لا تنجرف معه .
كانت أسوار المدرسة لا تتجاوز السنتيمترات فكانوا لا يشعرون فوجود أسوار ،فكان الأولاد يجلسون علي السور مستقبلين نسمات الهواء التي تعصف بالنخيل الملاصق للجدران ،وكان البلح يتساقط عليهم ويداعبهم عندما يسقط علي رأس احدهم فجأه .. وكانت المدرسة مبنية من الطين فتجعل الهواء رطباً بداخلها .
تنهدت جدتي وكأنها تجر لي الزمن حتي آرى ما كان  وقالت : كنا نخرج من البيت ونروح المدرسة بس مش عارفين انها مدرسة وكنت بحسب ان ده بيت العيلة وبيعلمونا فيه .

(2)
 

اول يوم لي في المدرسة كان اكثر الأيام التي تركت آثرها في ذاكرتي ،فمع بداية اليوم وإقناع أمي لي بجمال المدرسة والأصدقاء والشنطة التي لم استطع تمييز لونها بسبب تداخل الرسومات فيها .. وعندما أقتربنا من المدرسة افزعنى الباب الحديدى الأسود والأسوار العالية التي كانت تبقي عيني ملعقة ،والسلاسل الحديدية التي أصابها الصدأ والقفل الضخم الذي يتوسط الباب ،فعندما اقتربنا من الدخول تراجعت ولم تكفي صرخاتى وتعلقي بباب المدرسة محاولاً الإفلات من المُدرسين الذين نجحوا في إجبارى علي الدخول نوكانت وقع صوت غلق الباب كأنه يقول لي : لقد نلنا منك .


(3)

 

"استووا ..تراصوا واعتدلوا ..سدوا الخلل "
-لماذا نستوى ونتراص ونعتدل ؟
لكي يستوى الصف
-وما معني الاستواء ؟
أن تتوجه إلى القبله
-كلنا نعلم اننا يجب ان نتوجه إلى القبله ..لماذا لم يتوجه كلاً منا إلى القبلة وحيداً ونباعد المسافات بيننا ؟

ذلك ما امره به الله فلا تجادل وركز في الصلاة وكفاك سهواً .


(4)


قامت معركة بين عائلتين واشتد العراك ولم يقدر احد ان يوقفهم . صعد إمام مسجد قريتنا علي المنبر وظل يردد "استغفروا الله  استووا .. اعتدلوا . سدوا الفرج ..لا تختلفوا فتختلف قلوبكم .. لاتجعلوا بينكم فرج خشية مرور الشيطان "
بدأ  العراك يهدأ  ولجأت كلاً منهم إلى داره وعلي وجوههم حسرة وندم .
قلت له : كيف ذلك يا  شيخ ؟ كيف هدأوا بهذه الكلمات ؟ .. وهذه الكلمات لإستقامة الصفوف للصلاة فقط ؟!
قال : الاستواء ليس استواء الاتجاه وملء الفراغات المرئية فقط ! .. يستوى الصف هو شعورك بإن الواقف بجانبك أخيك الذي له حق عليك ، الاستواء بملء الفراغات الشعورية وإننا بنيان مرصوص نشد بعضنا بعضا .وهو تجديد دائم لمعني الإخاء الذي ليس له علاقة بالعرق والدم بل انها علاقة بالدين الذي اوصانا بالتراحم والإخاء وبناء مجتمع يتلاحم فيه البشر فيجب ان يحترموا العلاقة .
"استووا .. تراصوا .. سدوا الخلل "


(5)


تلك المساحات التي تسكنا قبل ان نسكنها ،تلك المساحات التي تتفاعل معنا وتترك آثرها في نفوسنا .فالمساحات هي التي تخلق إمكانية بناء علاقات مع النَفس –المكان-الدين .. فقريتنا قديماً كانت المساحة التي خلقت لنا علاقات تتجاوز الدم والعرق ، وتجعلنا نتحرك ككتلة مجتمعية وذلك كان يتجلى في شكل العمران بما يحمله من تراث ويحافظ علي  العلاقات .
.. مساحات الدين هي المساحة التي تشملنا وتحيط بنا ،والعلاقات فيها ليس رأسية هرمية بل أفقية دائرية نترقي في مستواياتها كلما اقتربت نفوسنا من الوحي فالعلاقة محكومة بمدي قربنا او ابتعادنا عن الوحي .


 " إرادة الإنسان تتجلى في علاقته بمن حوله وأيضا ما حوله.. الحوائط والأسوار قد تحمي وقد تفصل، وبعض الأمكنة ساحة للتواصل وبعضها مقبرة للأحلام. إن قراءة سيرة النبي في رمضان فرصة لاستكشاف كيف صاغ رسول الله بُنية أخلاقية وسلوكية للفرد في مجتمع إنساني وتراحمي..وكيف أدار:مساحات مدينة لذلك حين نتحدث عن الأديان فإننا لا نتحدث عن عقيدة وشعائر فحسب.. بل أيضا عن شرائع ..ولُحمة مجتمع له فئات وشرائح..ونموذج عُمران.. وحضارة. لكن إذا نسينا في خضم الصراع السياسي أن غايتنا هي بناء عمران يحترم الإنسان كخليفة لله فإننا سنعيد إنتاج المظالم ونحن نحسب أننا..نُحسن صُنعا.خِتاماً.. المُدن كالنساء.قد تخفي التجاعيد خلف المساحيق.وقد تُباهي بوجه زينته الصفاء. وأكثر المدن جمالا:دقيقة الملامح التي تقرأ في عينها لغة البراءة "
 -د.هبه رؤوف عزت

"المدن تشبه البشر فإنها تمر بمرحلتي الطفولة ،والمراهقة ثم تشيخ وفي النهاية تموت،لا يوجد جمال يدوم إلى الأبد المدن تنتصب فوق أعمدة روحية كالمرايا العملاقة وهي تعكس قلوب سكانها ،فإن اظلمت هذه القلوب وفقدت إيمانها ،فإنها ستفقد بريقها وبهائها "
-شمس التريزى


"الجاهل بالمكان أعمى ،لا أقصد بالمكان خريطة الشارع ولا أين يبدأ وأين ينتهي،بل المكان الذي يخصنا وتسكن فيه حكايتنا وذاكرة حوسنا الخمس فيه"
-رضوى عاشور


تعليقات