انشاء حساب



تسجيل الدخول



كتب بواسطة: سعيد عبدالغنى
14 أغسطس 2015
12403

كتبه - يسري محمود

 

(1)

نفوسٌ خَرِبة،أرواح هائمة،ومظلة العذاب تنتشر فوق رؤوس الخلائق كسماء سرمدية. شوارع المدينة تئن تحت وطأة ساكنيها المُذَلِّين المُهانين،كُلٌ منهم يحملُ صخرته كسيزيف،ويَجُرُّ قدميه باحثًا عن قُوتِه ورزق أطفاله. بالأمس القريب سَكَنَ العيون ألقُ الأمل لهنيهة! لحيظات نبضت فيها قلوبُ الشبابِ بأحلامهم المستحيلة وسَرَتْ فى عروقهم دماء الحرية. واليوم..كأنّ شيئًا لم يكن. اليوم عاد الفرعون مهيبًا محاطًا بقومٍ اسْتَخَفَّهُم فأطاعوه،واستعاد الكهنة معابدهم وأطلقوا البخور.وتسلّح العسكر من جديد بغلظة قلوبهم؛يعيثون فى الأرض فسادًا تقودهم شهوة الانتقام الأعمى. وفى لحظة قُدِّمت القرابين فى طقس جديد لم تشهده المدينة التاريخية من قبل. قُتل الأطهار. امتلأت أقبية السجون بالشباب. اغتُصِبت الفرحة على مرأى قلوبٍ عانقتها فى ليالٍ سعيدة مَرّتْ كلمحِ البصر. الآن..كُلّ شىء تغيّر..بل عاد كما كان. فقط مزيد من القتلى والجرحى والمعتقلين والبقية تمضغهم الخيبة على مهل كل نهار،وتدوسهم ذكريات الأحبة فى لياليهم المعتمة. وحيدٌ أنت رغم زحام المدينة. عدت تمضغ الأوراق وتحشو دماغك بالكلمات،إدمانك القديم.تعزّى نفسك بأنك لست وحدك فكل من بقى من حُطام المجزرة مدفون فى مقبرته الخاصة وإن ادّعى غير ذلك. لطالما كانت مقبرتك كتابًا وكفنك كلمات وبرزخك حكاية تهرب بها فى إنتظار خلاصٍ لا يأتى!

 

(2)

لابد وأن تعود.تُستدعى.مجبورٌ أنت على العودة لتأخذ نصيبك من العذاب. اغتراب الروح ليس أقسى ما تعانى وسط تشوّهات مدينتك. بتّ لاتحتمل رائحة العفن التى تفوح من ميادين بُقِرَت إنسانيتها الحبلى بالحرية.

حتى الأطفال بهجة الحياة ما عدت تلتفت لهم.سيشبّوا على ما ألفوْ عليه أبائهم،ربما ينجو بعضهم كما نجا إبراهيم عليه السلام من آذر وغيّه،ولكن حتى لو نجوْا ستلتهمهم النيران.ويقيناً لن توجد معجزة تجعل من النيران بردًا وسلامًا على

أجسادهم الطاهرة.فهذا ليس زمن المعجزات! تعود مودِّعًا الحكاية،تاركا فيها جوهرك الرافض لواقع صار كغصّة أليمة لا تنتهى ولا تزول. تنكفئ على ذاتك المثقوبة.تنسكب منها الأحلام كساعة رملية.تجتاز طرقات المدينة وحدك. وفى لحظة مُعلّقة بين الوهم والحقيقة تصطبغ الأشياء بالأحمر وتصمُّ أذنيك صرخاتٌ ملتاعة. تنتفض فتصيبك سهام النظرات المتوجّسة من أشباح مدينتك؛عبيدٌ وقوّادون ومقبورون ثلاثة أصناف تسكن المدينة لا رابع لهم. الظلامُ لعنةٌ أخرى تطاردنا.الظلام ليس أبشع ما تعانيه المدينة.كان اختيارُ مَنْ تم شحنهم كالحُمْر المُسْتَنْفِرَة.وها هم يتنفّسون العتمة.أَهُمْ مَنْ يسكنونها أم هي ما تسكنهم! "هواجسك الملعونة ستُوْدِي بِكَ إلى الجحيم". استحرّ القتلُ فى بلادنا،ونحن مسجونون فى حدود يومنا،مسجونون فى زنانة قضبانها قُوتُ اليومِ وتربيةُ الأطفال وراحة البَدَنِ. صخرةُ سيزيف لا تفارق أكتافَ مَن حلّت عليهم اللعنة ورضوا بالعبودية. والمقبورون،أمثالك،أضحوا حطامًا لا يستطيعون خلاصاً تُخايِلُهُم أطيافُ الشهداءِ وتطاردهم أنباء المعتقلين. والقوادّون ظنّوا أنهم استولوا على المدينة حين استباحوها وعرّوا لحمها على الملأ.

يومُهم آتٍ لا ريب فيه. يغزو ترتيل القرآن خوائك فتستكين.يتوغل الصوت الشجىّ عميقًا بآىْ الذكر الحكيم فيفك قيود النفس ويعيد لمرآة الروح جلاء الأيام البعيدة فيَغْشَاكَ النُعاسُ آَمَنَةً ورحمة.

 

 

(3)

مدفوع بالـ... حتى المسميات تسقط فى فراغ اللامعنى.تكتب.تكتب وكفى.تكتب لتتطهر.تكتب لتجتثّ من قرارة نفسك شعورًا متجذرًا بالذنب.تكتب لأنك لا تملك سوى الكلمات.بضاعةٌ رَخْصَة فى زمان عُمْلَتُه الوحيدة المعترف بها هى السلاح.

"السِلْمِيَة"... "السِلْمِ.." "السِلْ.." "السِلَاح" هكذا يكون الانتصار.نشوةُ الكلمة راحت تدغدغ نفسه التوّاقة للقِصَاصِ.أنعشته أخبار إخوانه فى غزة.وعادت آيات القرآن تداوي جروح روحه من جديد.

"كم من فئةٍ قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"،"وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى".

هنا فى مدينتي النهر عابس.اشتكت له الأرض ذات مساء بلوعة:"إنهم يروونى بدماء إخوانهم!!" قَطّب النهرُ وأراد أن يضنّ بمائه،ولكنه مأمور،ليس له من الأمر شيء.وحده الإنسان يتجبّر.وحده يتألّه ويقول:"أنا ربكم الأعلى" ويطلب تفويضًا بسفك الدماء! تتوالى الأحداث من سئّ لأسوأ وأنت تبحث عن مخرج.لست وحدك فى ذلك أيضا.جُلّ المقبورين يدبّرون خطط النجاة للهروب من مستنقع آسن نَتِن الرائحة. لا شيء يعلو فوق أصوات تنادي بالرحيل. "أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا.." ولكن كيف السبيل؟!

 

 

(4)

"وتلك الأيام نداولها بين الناس " متى تجئ أيامك؟ تذوب كحبّة ملح فى المستنقع فلا تستطيع فكاكًا.تَشَقَّقَتْ حنجرتُك من الهُتَافِ وسط الجموع الثائرة.

ثم ماذا؟

قبضُ الريح ! ثم ماذا؟ تتوه فى الحَكَايَا: "استولى الخنزير نابليون بخبثٍ شديدٍ على مُقَدَّرَاتِ المزرعة،وأطلق كلابه تنهش فى معارضيه وبث أبواق الدعاية تُغيّب الوعيَ وتُزيّف الحقائق.خطابه الدموي لا يحتاج لكثير من التفسير إما معنا وإما مقتول أو محبوس أو مطرود"

مُعلّقون بجانبك على مشانق القيصر يا شاعر النبوءات الكبيرة لم نُحْنِ الجَبَاهَ ولكن قُصمِت ظهورنا وأعيتنا الحيلة وهدّتنا الخيانة من بنى جلدتنا. فقئوا عيوننا ولم يثبتوا لنا جواهر مكانها بل كان كرمًا منهم تلك المرة أن تركونا،فقط،بلا عيون! فى المرة التى تليها أتقنوا عملهم ليرضوا شيطانهم الأعظم فكان القتل والحرق والتمثيل بالجثث. وكي يطفئوا ذُبالة ضوءٍ ضعيفٍ مرتعشٍ بداخل ضمائرهم العَطِنة وَسَمُونا ب"الشعب الآخر"،وأنشدوا يُهيّجون الكلاب المسعورة وهى تنهش فى لحوم" الأغيار".

نعم نحن الأغيار لأنّنا لم نحرق البخور فى معبد كاهنهم الأكبر،لأننا لم نركع للدولار ولم نرقص كالبغايا علّنا ننال الحظوة! متى تجئ أيامك؟

العدم يبتلع المدينة،والعبث يؤدى دورًا تاريخيًا.وأنت تدور فى دوائرك المفرغة تبحث عن خلاص. تقرأ..تق.. تُقبر! تكتب لتتطهر من دنس المدينة المصبوغة بالدم. عسيرٌ هو التذكر،وعصىٌ هو النسيان. فتحتضن برزخك المؤقت فى انتظار الرحيل.

(5)

نَسَمَاتُ الفَجْرِ.

هواءٌ عليلٌ تَعُبّه فى استمتاع وتَعَجُّبٍ.مازال فى الوجودِ شيءٌ جميل.

مازال فى المدينة شيءٌ من نقاء البدايات.الفجر بداية،الفجر نصر،والفجر مقدمة النور.تظفر بلحظات السكينة والهدوء قبل أن تغتالهما يدُ الضوضاء الآثمة فى مدينة مريضة بزحام أزلىّ،وركض محموم نحو اللاشيء!

حزينة هى المساجد.مُحاصرةٌ مآذنها ومَنفوخةٌ قِبَابُها بحزن عتيق.زواياها تئن تحت وطأة ظلم العسكر لأهل الديانة فى مدينة ما عادت تدرك كنه المقدسات وتخوض فى غمار المُحرّمات بقلبٍ قُدّ من حجر.

"وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ" صدق الله العظيم.

وهم لا يخشون الله!

تُبحر فى خيال خصب وترن الكلمات فى أذن قلبك التوّاق" ثم تكون خلافةٌ على منهاج النبوة" متى يارب؟ متى؟ تهمس شفتاك بأداة الاستفهام تستنطق بها حُجُبَ الغيب،لا شيء يُجيب وتظل علامة السؤال محنيّة على شفتيك...

فى الانتظار...

كلما ازداد عُمرك ازدادت الأسئلة،وكلما طال الطريق تشابكت السبل وتشعبت وأنت تجتهد لتختار وتخشى السقوط فى كل خطوة. لم تُنْهِ رحلتك بعد؛رحلة البحث عن اليقين.

"واعبدْ ربّك حتى يأتيك اليقين".ستلاقيه..حتما ستلاقيه! ولكن كيف؟ وعلى أيّة حال؟ اشْغَلْ نفسك بإجابة هذا السؤال ففيه يكمن جوهر السعي.

 

يسرى محمود : أديب مصري شاب مهتم بالشأن الثقافي والأدبي. له ديوان شعر منشور بعنوان "وحيد لا يمل الانتظار".

 


تعليقات