ترجمة مقال Why you shouldn’t want to always be happy، لأستاذ علم النفس في جامعة نوكس الأمريكية فرانك ماكاندرو، نقلًا عن موقع The Conversation، مع تعديلات بسيطة لملاءمة الجمهور المستهدف.
في التسعينيات من القرن الماضي، بدأ عالم النفس مارتن سيلجمان حركة علم النفس الإيجابي، وهو علم يهتم بدراسة السعادة، ويضع لها النظريات، وبذلك أصبحت السعادة من أولى المواضيع التي يدرسها علم النفس.
وهذه الحركة في الحقيقة تنتمي إلى توجه كان قد ظهر مبكّرًا في الستينيات تحت مسمى علم النفس الإنساني، وعلم النفس الوجودي، والذي أبرز أهمية التركيز على مكامن القوة لدى الإنسان، وبالتالي أن يصنع الإنسان معنى لحياته.
ومنذ ذلك الوقت، وحتى الآن، ظهرت الآلاف من الدراسات والمئات من الكتب التي تهدف إلى زيادة الشعور بالرضا لدى الإنسان، ومساعدة الناس في الوصول إلى حال نفسية أفضل.
ولكنها لم تحقق هدفها طول هذه الأعوام، فقد ظلت مستويات سعادتنا نحن البشر كما نراها ثابتة كما هي، فلماذا لم تغير كل هذه الدراسات والأبحاث من حياة البشر؟
الإجابة هي أن كل هذه المحاولات لزيادة سعادة الإنسان تبدو مجرد محاولات فارغة للسباحة ضد التيار، فلربما كانت طبيعتنا البشرية هي التي تجعلنا غير راضين عن واقعنا في معظم الوقت.
السعادة أنواع.. ولا أحد يحققها كلها
وترجع المشكلة جزئيًّا إلى أن السعادة ليست نوعًا واحدًا، فكما تقول الفيلسوفة جينيفر هيخت التي تدرس تاريخ السعادة، في كتابها "خرافة السعادة"، إننا جميعًا نمر بأنواع مختلفة من السعادة، ولكن هذه الأنواع ليست مثل الأجزاء التي تكمل بعضها البعض، بل قد تكون أحيانًا متعارضة مع بعضها، وبالتالي فحصولنا على قدر كبير من نوع واحد من السعادة قد يقلل من إمكانية أن نحصل على قدر مناسب من الأنواع الأخرى، فمن المستحيل أن نحقق أنواع السعادة كلها.
فعلى سبيل المثال، الرضا الذي قد تتطلع إليه في حياة قائمة على مسيرة مهنية ناجحة وأسرة سعيدة هو أمر يتحقق بعد مدة طويلة، وهو يتطلب مجهودًا كبيرًا، ويتطلب أن تضحي بالكثير من المتع الشخصية في الغالب، مثل مغامراتك مع أصدقائك، وخروجك في أي رحلة إلى أي مكان في الوقت الذي تريد، بل وحتى التضحية بإمكانية البقاء مسترخيًا في البيت لفترات طويلة.
وكذلك، لكي تحقق إنجازًا في عملك ستضطر إلى الاستغناء عن الكثير من متع الحياة، منها أنك قد تتخلى عن أيام الإجازة الكاملة وعن بعض صداقاتك أيضًا.
وهكذا، فكلما حققت قدرًا أكبر من السعادة في جانب من جوانب الحياة، فاتتك السعادة في الجوانب الأخرى.
عن الماضي الجميل والمستقبل الواعد
والجزء الثاني من المشكلة تكمن في طريقة تعامل عقولنا مع السعادة، ونرى ذلك مثلًا في أننا كثيرًا ما نقول: "يا سلام لو...!" (كان مجموعي أعلى في الثانوية، أو كان عندي علاقات أفضل، أو كان عندي أولاد... إلخ.)، كما نسمع كبار السن كثيرًا ما يقولون: "يا سلام لما كنت...!"، ولكن من النادر أن تسمع أحدًا يقول: "يا سلام على اللي أنا فيه!".
بالتأكيد، لم يكن ماضينا، ولن يكون مستقبلنا في الغالب أفضل من حاضرنا، ولكننا دائمًا نتخيل ذلك، وهذا جزء أساسي من عقولنا وطريقة تعاملها مع السعادة.
وعلى هذا الجزء، تقوم أديان ومعتقدات كاملة، بما فيها من اعتقاد بأن آدم كان في الجنة قبل أن ينزل إلى الأرض، وما فيها من وعد بالسعادة الأبدية في النعيم، أو الجنة؛ فالسعادة الأبدية هي الجزرة المعلقة التي يتطلع إليها البشر جميعهم.
وعلميًّا، توجد بعض المفاهيم التي توضح لنا لماذا يعمل العقل بهذا الشكل؛ فمعظمنا عادةً ما يكون في حالة تُدعى الانحياز للتفاؤل (أو التفاؤل غير الواقعي)، وهو الميل للاعتقاد بان مستقبلنا سيكون أفضل من حاضرنا.
ولكي أشرح هذا المفهوم لطلابي في المحاضرات، أعتمد على تجربة بسيطة، وهي أنني، ومع بداية كل فصل دراسي، أخبرهم بمتوسط الدرجات التي حصل عليها طلابي خلال الأعوام الثلاثة السابقة، ثم أسألهم عن الدرجة التي يتوقع كل واحد أن يصل إليها، وفي كل مرة تنجح التجربة، فدائمًا ما تكون الدرجات المتوقعة أعلى كثيرًا من الدرجة التي قد يتوقعها العقل بالتفكير المنطقي اعتمادًا على متوسط الدرجات الذي أخبرتهم به.
ومع ذلك، يؤمن البشر إيمانًا بأن مستقبلهم سيكون أفضل من حاضرهم.
ويدرس علماء النفس الإدراكي مفهومًا آخر اسمه مبدأ بوليانا (أو الانحياز الإيجابي)، ومعناه أننا ندرك، ونتذكر الذكريات السعيدة من الماضي بدقة أكبر من الذكريات السيئة (باستثناء الذين يعانون الاكتئاب، فهم عادةً ما يركزون على ما فشلوا فيه في الماضي، وخيبات الأمل التي مروا بها).
فالسبب وراء شعور معظمنا بأن الماضي أفضل من الحاضر هو تركيزنا على الأمور المبهجة التي عشناها في الماضي، بينما في الغالب ننسى المشقة والصعوبات التي كنا نواجهها كل يوم.
عادة ما تكون ذكرياتنا غير حقيقية، فنحن نسترجع الأجزاء الجميلة من الماضي
هل خداع النفس مفيد للإنسان؟
وهذه الأوهام عن الماضي والمستقبل قد تكون جزءً لا يتجزأ من النفسية الإنسانية، فهذه التصورات التي نخدع أنفسنا بها بلا وعي منا تساعدنا على أن نستمر في الحياة، فما دام ماضينا كان رائعًا ومستقبلنا سيكون أفضل على الأرجح، فنحن نستطيع تحمل حاضرنا السيئ، أو على الأقل غير المبهج.
وكل هذا يخبرنا ببساطة بأن كل سعادة نحققها سريعًا ما تزول، ويدرس الباحثون المهتمون بدراسة مشاعر الإنسان منذ أعوام طويلة ما يسمونه بـ "السعي الهيدوني" (hedonic treadmill)، وهو أننا نحاول باستماتة لتحقيق هدف معين، متطلعين إلى السعادة التي سيحققها لنا الوصول إلى هذا الهدف، وبعد أن نصل إليه، ونشعر بالسعادة لمدة، نعود إلى طبيعتنا مرة أخرى، لنشعر بعدم الرضا، ونبدأ في التطلع إلى هدف آخر، ونوقن أن هذا هو الذي سيحقق لنا السعادة إلى الأبد، وهكذا.
وينزعج طلابي جدًّا حين أخبرهم بهذه الفكرة، وينزعجون جدًّا حين أخبرهم بأنهم بعد 20 عامًا لن يكونوا سعداء أكثر من سعادتهم حاليًا، وربما في المرات القادمة سأشرح لهم الفكرة بطريقة أقل إزعاجًا بأن أقول لهم إنهم حين يكبرون سيتذكرون أن أيام الجامعة كانت سعيدة جدًّا، على الرغم من أنها لا تبدو كذلك في الوقت الحاضر.
ولا زالت نتائج الدراسات التي تركز على الناجحين والمرموقين، الذين يبدو لنا أن لديهم كل شيء في الحياة، تهدم تمامًا فكرة أن وصولنا لما نحلم به سيغير حياتنا ويجعلنا أسعد؛ فهذه الدراسات تثبت أن الأشياء السعيدة جدًّا بالنسبة لنا، مثل الوصول إلى ثروة كبيرة، مثلها مثل الأحداث السيئة جدًّا، مثل الإصابة بالشلل بسبب حادثة، كلاهما لا يؤثران تأثيرًا كبيرًا في مستوى سعادتنا على المدى البعيد.
فالأساتذة الجامعيون الذين يحلمون بالترقية، مثلهم مثل الطلاب الذين يحلمون بالتخرج، بعدما يصلون إلى ما يحلمون به، عادةً ما يجدون أنفسهم يفكرون: لماذا استعجلت؟ وشخصيًّا، كنت قد نجحت في أن أؤلف وأنشر كتابًا بعد مجهود كبير، ولكن كان من المحبط لي جدًّا أن أدرك أني بعد فترة قد تحولت من فرحتي بأني قد ألفت كتابًا، إلى خيبتي من أني لم أؤلف إلا كتابًا واحدًا.
ولكن، أوَّلًا وأخيرًا، هذا ما يجب أن تكون عليه الحياة، على الأقل من المنظور التطوري، فعدم رضانا عن الواقع وما نحلم به في المستقبل هما ما يبقيان لدينا الشغف والإرادة، أما ذكرياتنا الجميلة من الماضي تجعلنا نؤمن بأن المشاعر السعيدة التي نتطلع إليها يمكننا بالفعل أن نصل إليها كما وصلنا لها من قبل.
وفي الواقع، فإن الرضا التام عن الحاضر قد يقلل جدًّا من إرادتنا لتحقيق أي شيء، ومن وجهة النظر التطورية، من كان راضيًا تمامًا عن واقعه من البشر الأوائل، مات واندثر في التراب.
ولا يجب أن تكون هذه الفكرة محبطة بالنسبة لك، بل على العكس، فمجرد فهمنا أن السعادة موجودة ولكنها دائمًا ستكون مثل الزائر السريع الذي لا يبقى، قد يساعدنا في أن نستمتع أكثر بلحظات السعادة القليلة التي ندركها.
كما أن فهمنا أنه من المستحيل تحقيق السعادة في كل جوانب الحياة، قد يساعدنا في تقدير السعادة التي نحققها من إحدى هذه الجوانب.
أما فهمنا ألا أحد يمتلك كل شيء في الحقيقة، يقلل داخلنا ما يعرف علماء النفس أنه أكبر معيق للسعادة؛ الحسد.