انشاء حساب



تسجيل الدخول



كتب بواسطة: سامح خليل
08 أبريل 2015
17095

مقال لمحمد إيهاب


"عندما أتأمل قلب السماء تتألق فى الليل بنجومها، تحلق روحى إلى ما وراء الأفلاك، إلى النبع الذى تتدفق منه الخليقه، كل واصل إلى القلب يجىء من هناك، وما لا يجىء من هناك لغو لا روح فيه ولا حياة، يا لشدة ألمي عندما يسمع أحد بجانبي صوت ناي لا أستطيع أنا سماعه، أو يسمع آخر غناء أحد الرعاة بينما أنا لا أسمع شيئاً، كل هذا كاد يدفعني إلى اليأس، وكدت أضع حداً لحياتي اليائسة، إلا أن الفن وحده هو الذي منعني من ذلك."   - لودفيج فان بيتهوفن

قلقلة جرس الفسحة، هرج و مرج دب في جسد مبني المدرسة الحكومية  المتهالكة كسائر أقرانها من المشيدات المركزية التي عفى عليها الزمن وترك تذكرات من خيوط العناكب الروتينية، مما دفع الجميع بداية من صغار تلاميذ الصف الاول  وصولاً حذو كبار أعضاء هيئة التدريس نحو الانطلاق صوب نافذة الحرية في هروب جماعي مشابة  لسجن الكاتراز. كر وفر، رمال، وأطفال منكبين فوق بعضهم بعض في عراك شوارع مشابه لنادي القتال حتي يعلن الناظر سعد بك، أو أحمد بك، أو اي لقب متبوع بلفظة "بك" بإنتهاء فسحة الحرية ودق نواقيس عودة الفارين بخفي حنين الي الفصل.

"حصة موسيقي،" هكذا زفر أحد الطلاب في مقت مع دخول أستاذ "باسم" الفصل متابطاً "أورج."  شلال إبطيه المتعرقين تحت قميص كاروهات ينم عن محدودية دخله قبل ظهور عصور الريكسونا والفيبكس. يهم بإلقاء التحية ليجلس جمع الطلاب. مدرج موسيقي يُرسم علي السبورة السوداء بطبشور نائي ملحوق بتفنيد بدائي لسلم موسيقي من درجة (دو) المنخفضة وصولاً الي (دو) العليا إضافة إلي كراس موسيقي 28 ورقة منمق بتيكيت يجسد ختم الروتينية من الصغر المنقوش علي الحجر. يقف تلميذ بدين يظهر توهج بريق العبقرية والتفوق، يشدو السلم الموسيقي متقطعا وسط ضحكات زملائه الحاقدين عليه حتي تلعثم وبكي في لحظة  مواتية لقتل موهبة قد تكون يوما ما بمقدار عظمة عبدالوهاب أو كلاسيكية موتسارت. يدق جرس إنتهاء الحصة، لنفاجأ في الأسبوع التالي أنه تم قطع عيش أستاذ باسم بسبب تقشف ميزانية المدرسة، و قرار صارم من حضرة الناظر بتبديل حصة الموسيقي بنظيرتها من حصة الألعاب وسط تهليل عظيم وبهجة عارمة من صغار لا يعرفون التمييز، مختومة بقهقهة دامية من أستاذ "عبادة" الملتحي المتشدد المصمم دائما علي حرمانية الموسيقي وفوائد حصة الألعاب بديلا للهشك بشك والعوالمجية، وهم بإطلاق سيلاً من اللعنات علي زمن سيد درويش والصحبجية والحشاشين، هكذا كانت الحصيلة والموروث الميوزيكالي منذ زمن سحيق.



*ديجافو*

الفرقة العسكرية الموسيقية المصرية لطالما لم تخرج من  درجة المركز الأول لسنوات طويلة. فرقة استعان بها موسيقار الأجيال "محمد عبد الوهاب" في نسج ألحان النشيد الوطنى المصري بأمر من الرئيس الراحل "محمد أنور السادات." فرقة بها أمهر الخبرات ولها كل الإمكانيات بدءا من الآلات حتى الملابس. قاد عبد الوهاب الموسيقى العسكرية وهو في زيه العسكري لتعزف نشيد بلادى لأول مرة في تاريخها ويتحول من نشيد شعبي إلى نشيد رسمي يرفرف بجناح الألحان في المحافل العسكرية الدولية. أنظروا إلى ما آل إليه الحال مؤخراً، كيف تحولت الموسيقي العسكرية من درجة أولي إلي دركة أولي؟ والدليل ما حدث في عزف النشيد الوطني الروسي خلال إستقبال الرئيس "فلاديمير بوتين" وما ارتسم علي وجهه من اشمئزاز من نشاز الألحان وقرقرة مفزعة للآلات في منظر تراجيدي مسرحي للغاية.

خلال عقد من الزمن ساد مشهد مخزي علي المحتوي الفني في مصر عموماً، والموسيقي بوجه أخص، تخبطات كثيرة وإخفاقات عديدة كانت نتاج لإنحدار الذوق العام الذي يرجع إلي مرحلة تحول فيها جوهر الفن من الاستقلالية صوب الإستهلاكية.
و مما لا شك فية أن إنحدار المنتج الموسيقي يرجع في بادئ الامر الي إنحدار التعليم والتثقيف الموسيقي بداية من منظومة التعليم مروراً بعدم تشجيع الأهالي لصغار الموهوبين علي إقتناء آلة موسيقية أو حتي إستقدام مدربين لهم لقراءة النوتة أو تعلم المقامات.
 


*العلم Vs الموهبة*

لطفي بو شناق، كان مدير الخطوط الجوية التونسية في مصر، يقول عن نفسه "أنا رجل عصامي، لم أتعلم النوتة أو حتي أرسلني أبي الشيخ يوماً الي الكونسرفتوار،السماع والسماع فقط كان دائماً الوسيلة لتكوين ثقافة موسيقية قائمة علي السمع..كنت ملقاط للنغمات، والمقامات بل والأداء أيضاً."
 
"ياني كريسمالس" (ياني) كان سباح أوليمبي يوناني من الطراز الأول، لم يتعلم النوتة يوماً، آمن بموهبتة علي غزل الألحان ودمج النغمات في أنساق موسيقية مختلفة حتي كون جيش موسيقي عريض استطاع به غزو قلوب محبي الفن حول العالم.

"هانس زيمر" مؤلف موسيقي ألماني. "زيمر" رجل عصامي في عمله، فهو الذي علّم نفسه كل شيء من خلال التجربة ثم الخبرة بعد ذلك. وهو يعد من أهم الموسيقيين في تاريخ هوليوود وصناعة موسيقي الأفلام إن لم يكن أعظم الأحياء بينهم. يقول زيمر: "توفي أبي عندما كنت طفل صغير، و بطريقة ما هربت في الموسيقي والموسيقي احتوتني وأصبحت أفضل صديق لي."

إذا المسألة ليست مسألة تعليم أكاديمي فحسب، إنما هو حس الفنان وروح المحارب في خوض دروب المجهول هي من تصنع العظماء.


الفارق بين الجمهور المصري والجمهور في الخارج فى أن المتلقي/المستمع فى الخارج يجرب تذوق جميع أشكال الموسيقي، مما يصنع له مخزون ثقافي كبير، مما يجعله ناقد حقيقي في ساحات الحفلات الحية. ملم وفاهم لكافة تفاصيل التفاصيل، لا يستطيع فنان أن يخدعه أو يخذله تقديراً لثقافته وتجربته.

الأصل أن الشغف الموسيقي ورحلة البحث والتنقيب عن المزيكا هي أصل المتعة الحقيقية. ما فائدة أن تجد كل ما تريده علي طبق برتقالي في كوكب الساوندكلاود؟! طعم النصر وأنت بتدور علي مقطوعة مفقودة لتشايكوفسكي، دور للشيخ حجازي سلامة، كنوز مدفونة من إبداع خالص لمحمد عبد الوهاب بل موسيقي تصويرية لفيلم ما جعلتك تهطل الدموع. ستشعر بحرارة رمال الجيبسي كينجز اللاتينية في الجنوب، صدي إحساس "إيديث بياف" وهي تغزل بصوتها الدفء والسحر وسط صقيع أرض قوس النصر، شجن فيروز علي قمة جبال بيروت الرحبانية، قعدة طرب مقام بياتي وضربة عود الشيخ إمام، روح ساكسفون "أرمسترونغ" مخلوطة بلمسة أداء "نات كينج كول" علي خشبة مسرح  جاز وبلوز في الخمسينيات، معاناة بيتهوفين في كتابة تاريخ الفن في مواجهة فقدان السمع، البحث عن الفن بمثابة البحث عن هوية ولغة بل بحث عن الذات.

في تجربة موسيقية مدهشة  تابعة لمهرجان العلوم العالمي ستثبت لكم كم هي مذهلة مقدرة العقل البشري.

يستعرض "بوبي ماكفرين" قوة المقام الموسيقي الخماسي بإستخدام قيادته الفذة للجمهور الحاضر، المايسترو الأمريكي والموسيقار الحائز علي جائزة غرامي، "بوبي ماكفيرن" أجري علي الحاضرين ما يعرف باسم "توقع نغمات السلم الخماسي." بكل بساطة ما فعله هو الوقوف في منتصف المسرح، في بقعة ما بدأ يقفز مردداً نغمة "الدو" وكلما قفز إلي اليمين من المفترض أن يردد الجمهور نغمة أعلي تصاعدياً من (ري- مي- فا..إلخ).

والطبيعي أنه كلما تحرك إلي اليسار يردد الحضور نغمة أخفض تنازليا من (فا-مي- ري - إلخ)، والنتائج كانت مذهلة بحق.
 حتي من لا يعرف السلم الخماسي وجد نفسه ينطق النغمة لاإرادياً في إستعراض علمى حركي عصبي موسيقي لا علم للحضور به. أخذ "بوبي" يتحرك كالمجنون يميناً ويساراً وبعده الموجودين، حتي أثبت نظريتة. إلى جانب قدرة "بوبي ماكفرين" على الغناء بصوته وكأنه مجموعة من الآلات الموسيقية، له قدرة مذهلة على تطويع الجمهور.


*المشكلة*


المشكلة التى تواجه صناعة المزيكا في مصر هي عدم احتياجنا للفن لإشباع دافع إنساني بحت اسمة التذوق الفني. ظهر ما يعرف بال (Mainstream). لعنة التيار العام وهو أمر مشابه لنظرية "الملح كثير، أضف الفلفل/الفلفل زائد، أضف الملح."

 عادة يومية سيئة ظهرت خصوصاً بعد ظهور الفنون المستقلة وهبوط طيور العولمة علي ضفاف النيل، فشخرة لا متناهية تضف عبء علي الفنان والفن. نستمع إلي هذا لأن آخر استمع إليه و"أنا مش أقل منه يعنى،" نستمع إلي تلك المطربة لأن الأغنية تجاوزت المليون مشاهدة، نستمع إلي نواح خيانة الصحاب لأنهم أصحاب خائنون، نستمع إلي "فاغنر" و"ماهلر شتراوس" كي نصبح أرستقراطيين بزيادة كما شطيرة السجق بالجبنة الزيادة. لا يهم المحتوي طالما سأتسلق إلى وش القدرة، لا يهم المحتوي طالما يعجب الجميع وجمع تصفيق أدمي له سلميات الأصابع، لا يهم المحتوي طالما المغنية متعرية للغاية أو المطرب "وسيم وخلاب" وإبتسامته تسبب العمي المؤقت من فرط النصاعة. أخذنا القشرة ودهسنا لب الموضوع، والإستماع فضيلة والتذوق واجب، والنقد باب للحق، والتحليل سيد للموقف.


*رحلة بلا عودة*

الموسم الرابع من برنامج "الفائز معروف مسبقاً" لإستكشاف الأصوات الجهنمية. الموسم الأول ما بعد الألف من برنامج " نجم ال Deal "، ماسورة أتت من عالم آخر، بوابة زمنية لاحت في الأفق قامت بلفظ عجينة كروية من البرامج، والفنانين الموقوف حال عملهم، والمقدمين المعجونين بفرشاة "دافنشي" وإعلانات، مزيد من الإعلانات، جحافل مترامية لا حصر لها من الإعلانات.

مواهب كثيرات مدفونة في طمي مصر، تحتاج إلي سلم الفرصة القابع علي عمق ألف فرسخ بحري، ألف شاب وشابة يروادهم حلم النجومية والسيارة الفيراري والتسوق اليومي ببطاقة ممغنطة بنكية ذات رصيد مكون من 7 خانات. البعض يتجه صوب "مراكز الثقافة وفرق الكورال" والآخرين يذوبون في تجربة الدخول إلي أمتحان الأوبرا، ثمة نوع ثالث يضع إيمان شديد في مصداقية تلك البرامج، يقف الشاب/ة في طابور لا بداية له ولا نهاية كما يوم الحساب، العرق يغمره والعطش حليف الشيطان القابع في فمه، بينما لجنة تحكيم ثلاثية تحتسي مشروب غازي
في تأهب تحديد المصائر، سنمنح الحياة لذاك ونسلبها من تلك. ما أن ينجح الفتي (أو الفتاة) تغمره سعادة إمتلاك الكرة الارضية، لا يعرف أنه سيصدم فيما بعد، لا يعرف ما يدور أسفل المنضدة، يقف في موضع "شحات التصويت" يسترجي عطف القومية العربية و الحتمية التاريخية.


مقتبساً أداء "ماجد الكدواني" في فيلم الفرح، شخصية " النباطشي" يبدأ بتحية الدول بداية من المغرب العربي حيث الكثافة التصويتية العالية، يعرف من أين تؤكل الكتف. وأسفاه، يصدم يوم إعلان النتيجة حيث تقف المذيعة ممسكة بظرف أحمر بهلع مفتعل، تشعرك بذعر "هاري ترومان" (الرئيس الامريكي) لحظة ضغط زر عملية  "هيروشيما ونجازاكي" و الحقيقة أنه لم يشعر بذعر ما بداخله. يفوز من يحقق الرخاء الدولي، تتأزم الأوضاع في فلسطين لتجد الفائز من فلسطين، سوريا تصرخ فلنصمت جراحها بمختار من سوريا، تنزانيا مصابة بالإكتئاب و سن اليأس فالفائز من تنزانيا الشقيقة، هونولولو مصابة بالحكة إذا فلنأت بفائز من هونولولو..لكن أين تقع هونولولو.

المشهد مخزي بحق، وحتي من فازوا بالسيارات الفخمة وعقد الرعاية من شركة فلان وإستوديو علان ابتعدوا عن الساحة وإنزوت أصواتهم عن الأنظار، ويرجع ذلك إلي أن من ينجح سريعا يسقط صريعا، والحتمية التاريخية تجبرنا، وتخطرنا بسر صغير: "ما طار طير وإرتفع إلا كما طار وقع."

يتبع.
 

محمد إيهاب طالب بكلية الحقوق فى جامعة الأسكندرية.
 

 

 


تعليقات