انشاء حساب



تسجيل الدخول



كتب بواسطة: إسلام كرار
29 مارس 2016
15299

لا تنظر إلى السماء إلا إذا كانت السماء تتهيأ لأمر ما.. دقات قطرات المطر التي تسيل من السحابة التي طالما وقفت موازية لشباك غرفتها، الأتربة التي تستقر في جفونها وتستغرق وقتاً لإزالتها .. كأن السماء تعرفها وتنتظر منها نظرة فتتغير وتمطر وتعصف بالأرض لكي تنظر إليها فتستقر .


رحيل .. اسمي رحيل


أبي وأمي يعملان في صناعة الأفلام الوثائقية، فلطالما تمنيت أن أكون مشهدًا من مشاهد الطبيعة لكي يترقبوا حركتي وينظرون إلي باهتمام، أصبحت لا أطيق الطيور والحيوانات البرية التي تعرف أبوي ويعرفونها أكثر مني، ولكن دائماً ما أشكرهم على اسمي "رحيل ".. لم تنجبني أمي بطريقة طبيعية، فقد كنت نطفة في آسيا وأصبحت علقة في صحراء وادي"رم" في الأردن، وبعدها استقرت أمي في ولاية صلالة في عمان  لكي تنجبني .

 

أدخلني أبوي مدرسة داخلية لكي يتفرغوا لعملهم.. زملائي في المدرسة يشيرون إليّ ويقولون عني منطوية، في الحقيقة كنت أعلم جيداً كيف تقام العلاقات وكيف تُهدم .. كنت أستمتع برصد علامات الود التي تبدو بين بعض الزملاء وتعبيرات الكراهية التي تبدو على البعض الآخر ..  تعلمت عدة لغات وجلست أُحدث بها نفسي وأُحدث بها الله فما أجمل ان تتحدث إلى الله بعدة لغات .. قرأت في كل المجالات ولم أركن إلى أحد ولم ألجأ إلى أحد .. كانت اسئلتي عن الحياة تزداد تعقيداً لإننا كنت آرى الحياة عن بعد ..فكلما تعلمت وحدي كلما زادت قدرتي على التعايش وحدي وزادت المسافة بيني وبين الحياة التي أعرفها جيداً ولكن لم أقتحمها يوماً .

. . . . . . . . . . . . . . 


اللحظات ما بين الاستيقاظ من النوم والنهوض.. لحظات يستغرق فيها العقل ليدرك إنه موجود ثم يبدأ بتحديد موقعه في الدنيا ثم يبدأ في تذكر ما يجب القيام به .


دائما  كانت ايمان تُحدث خللًا في هذه العملية، فإنها بمجرد فتحها لعينيها تنهض فتشعر بالدوار فتسقط وتقوم وتواصل.. والدتها دكتورة المخ والأعصاب التي دائمًا ما تنظر لعينها وتفاصيل وجهها لكي تكتشف إن كانت أُصيبت بارتجاج في المخ بعد السقوط المتكرر من السرير ..


إيمان : صباح الخير يا أمي .. من هو نيتشه؟
الأم : صباح النور ..جهزي شنطتك عشان هتتأخري على المدرسة
إيمان : تركتها في المدرسة وحليت الواجب كله في المدرسة .. نيتشه ملحد ؟ .. يعني إيه ملحد ؟
الأم : أسئلتك أثقل من حمولة المراجع والكتب التي أحملها يومياً للبيت .. ملحد يعني مش بيحب ربنا

"تنظر الأم لابنتها وهي تسرع لتلحق موعد المدرسة دون حقيبتها وكأنها ذاهبة في رحلة .. وتتذكر وصف مدير المدرسة لإيمان بإنها كنغمة شاذة وسط التناغم الذي يريد أن يصنعه في المدرسة، فتضحك الأم وتشكره لاعتبارها نغمة فهذا لطف منه"

تذهب إيمان لمكتبة وتطبع صورة لنيتشه وتضعها على كراسات المدرسة، وعندما سألتها المُدرسة عن الصورة قالت: عمو نيتشه ملحد زيي
المُدرسة : استغفري الله فهذا كفر
ايمان : لأ هو ملحد يعني مش بيحب ربنا بس.. أنا كمان مش بحب ربنا
المدرسة: انتي بتعرفي تصلي يا إيمان ؟

ايمان: لم يعلمني أحد الصلاة، و لم تضربني أمي من أجلها إنما ضربتني لأنني أضعت حذائي، في الحقيقة لم أضيّعه إنما كنت أحاول أن أسقط بعض حبات التوت التي كانت في طريقي للمدرسة, بقذفه إليها فعلق في مكان صعب وعال في الشجرة، لكن مع ذلك  تعلمت الصلاة بنفسي دون منيّة أبي أو توجيه من أمي، فكنت أتوضأ وأؤذن في بداية الصلاة، وأبدأ بالسجود والركوع والشهادة، وخلال هذه العملية لا يبقى شيطان صغير ولا كبير على هذا الكوكب إلا ويركبني، كل الخطط الشريرة التي رسمتها وأبدعتها كانت وليدة هذه اللحظات وكل مشاهد الأفلام الأجنبية التي أشاهدها كانت تحضرني، وكنت أجبر نفسي وأقول لعقلي لا يجوز هذا الآن، لكن عبثاً، صلّيت ثلاثة أشهر في حياتي، وارتكبت الكثير من الخطايا وسمعت الكثير عن الخشوع الذي لم أشعر به لحظة واحدة . .. وكنت أسأل نفسي لماذا يقول الله "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" ولم تنهاني صلاتي عن أي منهم؟

 

 

تصعد على حافة السور ، كل شىء مُهيأ لكي تنهي حياتها، ضربات قلبها المتسارعة كأنها إيقاع ضربات خيول الغزاة، صرخات أمها وبكائها وتهديدات أبيها بأنها ستدخل النار حتماً إن لم ترجع.. نظرات الجيران من الشرفات وهم يترقبون المشهد، حتى الملائكة التي على كتفيها كانت مُهيئة أن تفلت أقدامها وتفارق جسدها .

 

 كان من المفترض أن تشعر بالخوف والحزن، وتتذكر لحظات الألم التي تجعلها تدفع بنفسها وتسقط وتبدأ أفكارها وذاكرتها وروحها تتطاير مفارقة ذلك الجسد الذي يرتطم بالأرض كتلة لحم لا قيمة له.

 

كانت التجربة غير ما حكتها لي صديقتي التي حاولت الانتحار وعندما فشلت بدأت تتدين.. وبدأ عقلها يهدأ وبدلاً من أن تبحث عن إجابات لتساؤلاتها قررت أن تنقل إجابة جاهزة من أحد اصدقائها الجدد الذين تناقلوها أيضًا من أشخاص آخرين.. وكنت أتسائل حينها: هل هدأت لأنها تحتمي بالله فعلاً أم لأنها تحتمي بأناس يعرفون شيئًا عن الله؟

 

أنظر إلى الأسفل وأفكر في قوانين السقوط الحر والزاوية التي سوف أصنعها من سور الشرفة قبل أن أسقط ..

يقطع سير المعادلات الرياضية في رأسي قائلاً : لو رجعتي عن هذا القرار فلا تتصوري إن الأمور ستبقى كما كانت.. في لحظات الخوف من الفَقد كل شىء يتغير.

 

"شاب يخطو نحو الثلاثين من عمره.. يقف أسفل الشرفة المقابلة لي.. دائماً ما آراه لا يبدو عليه أي أهتمام لأي شىء.. بطيء الحركة وبطيء الكلام وكأنه لا يكترث بمرور الزمن ولا يهتم إن تأتي له الأشياء متأخرة أو في موعدها .."

قلت : إذن أنت تزيد إصراري أن أُلقي بنفسي!
  قال : هذا اختيارك .. بغض النظر عن العواقب غير المرئية التي ستؤول إليها أفعالنا لكن عندما نتفقد كل حاضرنا فلا نكترث بمستقبلنا
.. قلت : ولكن أنا لم أفقد كل حاضري
قال : لا تنظري للديكور الذي يحيط بالأشياء التي نملكها.. فعندما نفقد ما نملك فما حوله لم يعد له قيمة
 قلت : معك حق.. هل تعتقد اني سأعذَّب إذا قتلت نفسي؟
 قال : ربما يكون العقاب أنك تخليتي قبل أن تعرفي الحقيقة.. حقيقة ما تجهلين ولم تعطي لنفسك فرصة أن تقتربي أكثر من المجهول وترينه بوضوح.. ربما بعد أن تفارق روحك جسدك ستطوف تبحث عن الحقيقة، ولكن عندما تجدها ستحتاج جسدها لكي تعبر داخل حقيقتها وتتفتت داخلها .

 


تعليقات