انشاء حساب



تسجيل الدخول



كتب بواسطة: محمود قشطة
26 ديسمبر 2015
15255

"أنت حر"، جملة لطالما سمعناها تتكرر على أسماعنا من أشخاص مختلفين فى مواقف مختلفة، ولكن غالبًا كانت تحمل فى طياتها جانباً من العتاب أو الاستنكار وربما -فى بعض الأحيان- يُرَاد من ورائها التهديد.

 

وعلى الرغم من ذلك تبقى هذه الجملة من أصدق الحقائق الموجودة فى هذا الكون، وأكثرها قابلية للتحقق فى هذا العالم، فهى منوطة بإحساس الإنسان بذاته وتفرده بتلك الخاصية عن غيره من المخلوقات التى أوجدها الله –سبحانه وتعالى- ولكن ما لنا لا نستطيع أن نقول "أننا أحرار" صادقين مع أنفسنا مؤمنين بإمكانية تحقق هذا القول كاملاً فى قلوبنا، دائماً ما نجد أنفسنا مدفوعين -عن وعى أو لا وعى- إلى مساحات مغلقة من الإختيارات التى تُفرَض علينا من كل جهة، كأن كل شئ فى هذا الكون تواطئ وتعاون على ألا نتنسم عبيرها ونشعر بها كاملة من غير نقصان أو شك.

هل لديك شك فيما قلت؟

هل ترى أنك شخص حاصل على حريته كاملة؟ هل كل اختياراتك نابعة من داخلك؟، من قيمك؟، من أخلاقك؟، إذاً أخبرنى عن موقف فقط موقف واحد فى حياتك كان لك اليد العليا فيه، كان لإختيارك الحر المبنى على التفكير المنطقى السليم القول الفصل، إذا وجدته  فهنيئاً لك لأنك تتمتع بما فقد الأغلبية العظمى من الناس، أما إذا لم تجد شيئاَ -وهو الأرجح والأغلب- فلا تحزن، فإنك لست وحدك فى هذا العالم.


أنت ممن حُوصِروا فى هذه الحياة بما لا يدع لهم مجالاً للاختيار والحرية ولا حتى للتنفس، فأنت كنت ومازلت مجرد دمية لرغبات وطموحات وأحلام الآخرين يُحرِكوك كيفما شاءوا، حياتك مليئة بالإختيارات والمواقف لكنها ليست اختياراتك، ليست مواقفك، ليست أنت.
فاختيارك لتخصصك فى الثانوية العامة ليكن نابعاً من حبك لمجال معين تطمح أن تتفوق فيه وتُثمِر، انما كان تلبية لرغبات والديك وأحلامهم الشخصية لمستقبلك كما يرون، لكن أين أنت من كل هذا؟، أين حلمك؟، أين اختيارك؟، أين حريتك؟
وشريك حياتك، من ستسكنين إليه، من ستكملين معه مشوار العمر جنباً إلى جنب، من ستكون أحلامك وأحلامه واحدة، أهو اختيارك حقاً؟، أم اختيار المجتمع والأهل لكِ؟، الاختيار القائم لا على ما بينكما من تآلف ومودة ورحمة وحب بل على معايير مادية صرفة ومصلحة متبادلة، فهو سيوفر لكِ المأوى والملبس والمأكل والمال، وأنتِ فى المقابل ستكونين زوجة له وخادمة ومنجبة ومربية لأطفاله، ولا وجود لأى ارتباط روحى بينكما ولا حتى الحد الأدنى من التفاهم والمحبة، هل هى السعادة المنتظرة حقاً؟، أم هو محض الإعتياد الذى يقتل الروح وما يلبث إلا أن يأتى على ما بقى لديكِ من سعادة؟، أخبرينى هل هذا هو اختيارك حقاً؟

ألا تعلمون أننا مسئولون عن قرارتنا واختياراتنا ومكلفون لا من قبل انسان مثلنا لكن من قبل الله –سبحانه وتعالى-، والتكليف والمسئولية لا تقوم إلا على دعامة من الحرية فى الفعل أو الترك، حتى فيما يخص مسئولية الإيمان بوجود الله أو عدمه -وهى الأخطر لا شك- كان لكل انسان مطلق الحرية فى ذلك كما فى قوله –تعالى-: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ"، فإذا ما انتفت صفة الحرية وتخلى كل منا عن حريته فى الإختيار وأصبحنا فى كل ما نفعل مُجبَرين لا مخيرين بلا حرية أو إرادة، فليس هناك داعٍ لأىّ شئ، لا داعِ للتربية والتهذيب أو الوعظ والإرشاد، أو حتى وضع القوانين للثواب والعقاب، لأن ذلك كله يفترض أن هناك ذاتاً لها إرادة حرة قادرة على الإختيار، فالتخلى عن حريتك هكذا ببساطة والقول انك مُجبَر إنما هو تخلى عن مسئوليتك وتكليفك وتخلى عن حياتك عموماً، وما هو إلا يأس، يأس محض، فالجَبْر فيه إغلاق لجميع منافذ الأمل فى الحياة، وبدون الأمل لا يستطيع الإنسان أن يتقدم أو يتطور أو يحيا.

المعوقات والمشاكل والضغوط والإعتبارات هى من المكونات الأساسية للحياة، لن تزول، لن تنتهى، لن تخف وطأتها، لكن ليس معنى ذلك أبداُ أن تذعن لها وتتخلى لصالحها عن حريتك، عن اختياراتك، عن حياتك، عن وجودك، عن نفسك.
لشد ما أزعجت نفسى وأقلقتها وأثارت فيها من التساؤلات الكثير جملة "أنا عبد المأمور"، التى يتخذها البعض ذريعة لتبرير عدم قدرتهم على اختيار قراراتهم بإرادتهم الحرة، والمأمور هنا قد يكون انساناً آخر لاحول له ولا قوة، ولكن ليس هو الشخص فى ذاته ما يقصدونه فى جملتهم، إنما هو خوفهم وعجزهم وقلة حيلتهم، تلك هى ما يعبدون حقاً، ألا تعلم يا هذا أنه لولا خوفى وخوفك، وعجزى وعجزك، وقلة حيلتى وحيلتك، ما وجد أمثال هؤلاء طريقاً ممهدة لممارسة ما يمارسون من فساد وظلم، إنما بتلك الجملة وأشباهها متواطئون تمام التواطؤ فيما يمكن أن يقع من ظلم وفساد، ألا لعنة الله على الظلم، ألا لعنة الله على الخوف، ألا لعنة الله على العجز، ألا لعنة الله علينا إذا كنا للظالمين ظهيرا.

فاعلم انك لست بضعيف ولست بعاجز، فإن استسلمت لنفسك وضعفها وعجزها وما فيها من ميل لتفضيل المصلحة المادية المحسوسة على غيرها من المصالح الروحية والنفسية والدينية الأخروية، وخضعت لضغوطات الحياة ومعوقاتها وما فى مجتمعنا من أفكار خاطئة مسمومة تهدم الحياة ولا تبنيها، فاعلم أنك لست بحُر ولا تعرفها ولا اقتربت حتى من رؤيتها ومعرفتها، واعلم أنك نسيت تكليفك  من قبل الله –سبحانه وتعالى- وتخليت عن مسئوليتك، ولا يتبع  ذلك إلا الخسارة، فإن كنت على هذه الحال وتعتقد أنك حر، فأنت مخادع ليس ليّ ولا لأى انسان آخر، انما أنت مخادع لنفسك وكاذب عليها، ولا أجد نصيحة لأوجهها لك أفضل مما  كتب الكاتب الروسى دوستويفسكى:- "اهرب من الكذب قبل كل شئ، جميع أنواع الكذب، وخاصة كذب الإنسان على نفسه."

تخلصك من كذبك على نفسك ومواجهتك لمعوقات الحياة ومشاكلها وضغوطها، سيجعلك تتلمس طريقك إلى حريتك، وتحافظ على إرادتك وتتحمل نتيجة قراراتك الخاصة، وتقوم بمسئوليتك وتكليفك، وتحافظ على إيمانك بربك وبمهمتك فى هذه الحياة.
حافظ على إيمانك حتى النهاية، ولو كان عليك أن تبقى الإنسان الوحيد الذى يحافظ عليه. إذا تنكر سائر الناس لحريتهم، فثابر أنت على المضى فى طريق الحرية واستمر فى تمجيدها، فأنت حر يا صديقى لا مُجبَر وإن توهمت غير ذلك، فتلك حقيقة لا مفر منها ولا مهرب.

ذلك هو طريقك للحرية ... عرفت فالزم ... أو لا تلزم، فأنت حر.


تعليقات